في حدود الزمان والمكان











في حدود الزمان والمکان



دراسة الحدث في حدود الزمان والمکان

ونحم في نطاق فهمنا لموقف النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع في مني وعرفات، ومنع قريش له من نصب علي (عليه السلام) إماماً لأمة، نسجل النقاط التالية:

1- يوم عرفة هو يوم عبادة ودعاء وابتهال، وانقطاع إلي الله، سبحانه، ويکون فيه کل واحد من الناس منشغلاً بنفسه، وبمناجاة ربه، لا يتوقع في موقفه ذاک أي نشاط سياسي عام، ولا يخطر ذلک علي بال.

فإذا رأي أن النبي الأکرم (صلي الله عليه وآله وسلم) يبادر إلي عمل من هذا القبيل، فلا بد وأن يشعر: أن هناک أمراً بالغ الخطورة، وفائق الأهمية، فينشد لسماع ذلک الأمر والتعرف عليه، ويلاحق جزئياته بدقة ووعي، وبانتباه فائق.

2- لماذا في موسم الحج

وإذا کان موسم الحج هو المناسبة التي يجتمع فيها الناس من مختلف البلاد، علي إختلاف طبقاتهم، وأجناسهم، وأهوائهم، فإن أي حدث متميز يرونه ويشاهدونه فيه لسوف تنتشر أخباره بواسطتهم علي أوسع نطاق، فکيف إذا کان هذا الحدث يحمل في طياته الکثير من المفاجآت، والعديد من عناصر الإثارة، وفيه من الأهمية ما يرتقي به إلي مستوي الأحداث المصيرية للدعوة الإسلامية بأسرها.

3- وجود الرسول أيضاًکما أن وجود الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) في موسم الحج، لسوف يضفي علي هذه المناسبة المزيد من البهجة، والإرتياح، ولسوف يعطي لها معني روحياً أکثر عمقاً، وأکثر شفافية وسيشعرون بحساسية زائدة تجاه أي قول وفعل يصدر من جهته (صلي الله عليه وآله وسلم)، وسيکون الدافع لديهم قوياَ لينقلوا للناس مشاهداتهم، وذکرياتهم في سفرهم الفريد ذاک.

کما أن الناس الذين يعيشون في مناطق بعيدة عنه (صلي الله عليه وآله وسلم)، ويشتاقون إليه، لسوف يلذ لهم سماع تلک الأخبار، وتتبعها بشغف، وبدقة وبإنتباه زائد، ليعرفوا کل ما صدر من نبيهم، من: قول، وفعل، وتوجيه، وسلوک، وأمر، ونهين وتحذير، وترغيب وما إلي ذلک.

4- الذکريات الغالية وکل من رافق النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في هذا السفر العبادي، لسوف يحتفظ في ذاکرته بذکريات عزيزة وغالية علي قلبه، تبقي حية غضبة في روحه وفي وجدانه، علي مدي الأيام والشهور، والأعوام والدهور، ما دام أن هذه هي آخر مرة يري فيها رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، أعظم وأکرم، وأغلي رجل وجد، ويوجد علي وجه الأرض.

وحين تتخذ العلاقة بالحديث بعداً عاطفياً، يلامس مشاعر الإنسان، وأحاسسيه، فإنها تصبح اکثر رسوخاً وحيوية، وابعد أثراً في مجال الإلتزام والموقف.

5- الناس أمام مسؤولياتهم

وبعد أن عرفنا أنه (صلي الله عليه وآله وسلم) قد اختار الزمان، ليکون يوم العبادة والإنقطاع إلي الله سبحانه- يوم عرفة- والمکان، وهو نفس جبل عرفات، ثم اختار الخصوصيات والحالات ذات الطابع الخاص، ککونها أخر حجة للناس معه، حيث قد أخبر الناس:

أن الأجل قد أصبح قريباً.

ثم اختار أسلوب الخطاب الجماهيري، لا خطاب الأفراد والأشخاص، کما هو الحال في المناسبات العادية،-إذا عرفنا ذلک، وسواه- فإنه يصبح واضحاً: أنه (صلي الله عليه وآله وسلم) قد أراد أن يضع الأمة امام مسؤولياتها، ليفهمها: أن تنفيذ هذا الأمر يقع علي عاتقها جميعاً، فليس لأفراد أن يعتذروا بأن هذا أمر لا يعنيهم، ولا يقع في دائرة واجباتهم، کما أنهم لا يمکنهم دعوي الجهل بأبعاده وملابساته، بل الجميع مطالبون بهذا الواجب، ومسؤولون عنه، وليس خاصاً بفئة من الناس، لا يتعداها إلي غيرها، وبذلک تکون الحجة قد قامت علي الجميع، ولم يبق عذر لمعتذر، ولا حيلة لمتطلب حيلة.

6- احتکار القرار وهذه الطريقة في العمل قد أخرجت القضية عن احتکار جماعة بعينها، قد يروق لها أن تدعي: أنها وحدها صاحبة الحل والعقد في هذه المسألة- أخرجها عن ذلک لتصبح قضية الأمة بأسرها، ومن مسؤولياتها التي لا بد وأن تطالب، وتطالب بها، فليس لقريش بقد هذا، ولا لغيرها: أن تحتکر القرار في أمر الإمامة والخلافة، کما قد حصل ذلک بالفعل.

ولنا أن نعتبر هذا من أهم إنجازات هذا الموقف، وهو ضربة موفقة في مجال التخطيط لمستقبل الرسالة، وترکيز الفهم الصحيح لمفهوم الإمامة لدي جميع الأجيال، وعلي مر العصور.

وقد کان لا بد لهذه القضية من أن تخرج من يد أناس يريدون أن يمارسوا الإقطاعية السياسية والدينية، علي أسس ومفاهيم جاهلية، دونما اثارة من علم، ولا دليل من هدي وإنما من منطلق الأهواء الشيطانية والأطماع الرخيصة، والأحقاد المقيتة والبغيضة.


7- تساقط الاقنعة ولعل الإنجاز الأهم هنا هو: أنه (صلي الله عليه وآله وسلم) قد استطاع أن يکشف زيف المزيفين، وخداع الماکرين، ويعريهم أمام الناس، حتي عرفهم کل أحد، وبأسلوب يستطيع الناس جميعاً علي اختلاف مستوياتهم وحالاتهم ودرجاتهم في الفکر، وفي الوعي، وفي السن، وفي الموقع، وفي غير ذلک من أمور أن يدرکوه ويفهموه... فقد رأي الجميع: أن هؤلاء الذين يدعون: أنهم يوقرون رسول الله ويتبرکون بفضل وضوئه، وببصاقه، وحتي بنخامته، وأنهم يعملون بالتوجيهات الإلهية التي تقول:

(لا تقدموا بين يدي الله ورسوله).[1] .

(لا ترفعوا أصواتکم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول کجهر بعضکم لبعض).[2] .

(ما آتاکم الرسول فخذوه، وما نهاکم عنه فانتهوا).[3] .

(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول).[4] .

وغير ذلک من آيات تنظم تعاملهم، وتضع الحدود، وترسم معالم السلوک معه (صلي الله عليه وآله وسلم)، مما يکون الفسق والخروج عن الدين، في تجاهله وفي تعديه.

هذا إلي جانب اعترافهم بما له (صلي الله عليه وآله وسلم) من فضل عليهم وأياد لديهم، فإنه هو الذي أخرجهم- بفضل الله: من الظلمات الي النور، ومن الضلال إلي الهدي، وأبدلهم الذل بالعز، والشقاء بالسعادة، والنار بالجنان.

مع أنهم يدعون: أنهم قد جاؤا في هذا الزمان الشريف، إلي هذا المکان المقدس- عرفات- لعبادة الله سبحانه وطلب رضاه، منيبين إليه سبحانه، ليس لهم في حطام الدنيا، وزخارفها، مطلب ولا مأرب.

ولکن مع ذلک کله.. فقد رأي الجميع بأم أعينهم: کيف أن حرکة بسيطة منه (صلي الله عليه وآله وسلم) قد أظهرتهم علي حقيقتهم، وکشفت خفي مکرهم، وخادع زيفهم، ورأي کل أحد کيف أنهم: لا يوقرون رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، ويرفعون أصواتهم فوق صوته، ويجهرون له بالقول أکثر من جهر بعضهم لبعضهم، ويعصون أوامره، کل ذلک رغبة في الدنيا، وزهداً في الآخرة،وطلباً لحظ الشيطان، وعزوفاً عن الکرامة الإلهية ورضي الرحمن.

8- وإذا کان هؤلاء لا يتورعون عن معاملة نبيهم بهذا الأسلوب الوقح والقبيح، فهل تراهم يوقرون من هو دونه، في ظروف وحالات لا تصل إلي حالاتهم معه (صلي الله عليه وآله وسلم)، ولا تدانيها؟!.

وماذا عسي أن يکون موقفهم ممن طفحت قلوبهم بالحقد عليه، ولهم قبله ترات وثارات من قتلهم علي الشرک من اسلافهم، کعلي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه.

وهکذا.. فإنه يکون (صلي الله عليه وآله وسلم) قد أفقدهم، وأفقد مؤيدهم کل حجة، وحجب عنهم کل عذر، سوي البغي والإصرار علي الباطل، والجحود للحق، فقد ظهر ما کان خفياً، وأسفر الصبح لذي عينين، ولم يعد يمکن الإحالة، علي المجهول، بدعوي: أنه يمکن أن يکون قد ظهر لهم ما خفي علينا.

أو أنهم- وهم الأتقياء الأبرار- لا يمکن أن يخالفوا رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، ولا يبطلوا تدبيره، ويخونوا عهده، وهو لما يدفن.

أو أن من غير المعقول: أن تصدر الخيانة من أکثر الصحابة؟! أو أن يسکتوا بأجمعهم عليها.

وما إلي ذلک من أساليب يمارسها البعض لخداع السذج والبسطاء ومن لا علم لهم بواقع أولئک الناس، ولا بمواقفهم.

فإن کل هذه الدعاوي عد سقطت، وجميع تلکم الأعذار قد ظهر زيفها وبطلانها، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليکفر.

9- القرار الالهي الثابت والذي ساهم في قطع کل عذر، وبوار کل حجة: أن ذلک قد کان منهم في الأيام الأخيرة من حياته (صلي الله عليه وآله وسلم)، بحيث لم يبق مجال لدعوي الإنابة والتوبة، أو الندم علي ما صدر منهم، ولا لدعوي تبدل الأوضاع والأحوال، والظروف والمقتضيات، ولا لدعوي تبدل القرار الإلهي النبوي.

10- التهديد والتآمر

هذا.. وقد تقدم: أن هؤلاء أنفسهم حينما رأوا جدية التهديد الإلهي، قد سکتوا في المرحلة اللاحقة، حينما قام النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) ليعلن إمامة علي (عليه السلام) في غدير خم، فلم نجد منهم أيه بادرة خلاف، إلا فيما ندر من همسات عابرة، لا تکاد تسمع.

وقد بادر هؤلاء أنفسهم الي البيعة له (عليه السلام). وأن کانوا قد أسروا وبيتوا ما لا يرضي الله ورسوله من القول والفعل، والنية والتخطيط. الذي ظهرت نتائجه بعد وفاة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، وهو حينما تصدي بعضهم لمنع النبي الأکرم (صلي الله عليه وآله وسلم) من کتابة الکتاب بالوصية لعلي (عليه السلام) حينما کان النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) علي فراش المرض، في ما عرف برزية يوم الخميس! وقال قائلهم: إن النبي ليهجر!

أو: غلبه الوجع!.[5] .

11- الخير في ما وقع وأخيراً.. فإن ما جري في عرفة، ومني، وإظهار هؤلاء الناس علي حقيقتهم، وما تبع ذلک من فوائد وعوائد أشير اليها، قد کان ضرورياً ولازماً، للحفاظ علي مستقبل الدعوة، وبقائها، فقد عرفت الأمة الوفي من المتآمر، والمؤمن الخالص، من غير الخالص، وفي ذلک النفع الکثير والخير العميم.

(فعسي أن تکرهوا شيئاً، ويجعل الله فيه خيراً کثيراً).[6] .

وصدق الله ورسوله، وخاب من افتري... (فمن نکث فإنما ينکث علي نفسه).[7] .

والحمد لله والصلاة والسلام علي محمد وآله الطاهرين.







  1. سورة الحجرات الآية 1.
  2. سورة الحجرات الآية 2.
  3. سورة الحشر الآية 7.
  4. سورة النساء الآية 59.
  5. الإيضاح: ص 359، وتذکرة الخواص: 62، وسر العالمين 21، وصحيح البخاري ج 3، ص 60 و ج 4، ص 173 و ج 1، ص 22-21 و ج 2، ص 115، والمصنف للصنعاني ج 6، ص 57 و ج 10، ص 361، وراجع ج 5، ص 438، والإرشاد للمفيد ص 107 والبحار ج 22، ص 498 وراجع: الغيبة للنعماني ص 82-81 وعمدة القاري ج 14 و ص 298 وفتح الباري ج 8، ص 101 و 102 والبداية والنهاية ج 5، ص 227، والبدء والتاريخ ج 5 ص 59، والملل والنحل ج 1، ص 22، والطبقات الکبري ج 2، ص 244، وتاريخ الأمم والملوک ج 3، ص 193-192، والکامل في التاريخ ج 2، ص 320، وأنساب الأشراف ج 1، ص 562، وشرح النهج للمعتزلي ج 6، ص 51، وتاريخ الخميس ج 2، ص 164، وصحيح مسلم ص 75، ومسند أحمد ج 1، ص 355 و ص 324 و ص 325 والسيرة الحلبية ج 3، ص 344، ونهج الحق: ص 273، والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج 2 قسم 2، ص 62.

    راجع: حق اليقين ج 1، ص 182-181 ودلائل الصدق ج 3 قسم 1، ص 70-63، والصراط المستقيم ج 3 و 6، والمراجعات: 353، والنص والإجتهاد: 163-149.

  6. سورة النساء الآية 19.
  7. سورة الفتح الآية 10.