الغدير في ظل التهديدات الإلهية











الغدير في ظل التهديدات الإلهية



قريش وخلافة بني هاشم

قد عرفنا في الفصل السابق: أن قريشاً، ومن هم علي رأيها هم الذين کانوا يخططون لصرف الأمر عن بني هاشم، وبالذات عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام، ويتصدون لملاحقته ومتابعته في جميع تفاصيله وجزئياته.

وقد رأوا: أن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) کان في مختلف المواقع والمواضع لا يزال يهتف باسمه، ويؤکد علي إمامته، ولم يکن في مصلحتهم أن يعلن بذلک أمام تلک الجموع الغفيرة، التي جاءت للحج من جميع الأقطار والأمصار، ولأجل ذلک فقد بادروا إلي التشويش والإخلال بالنظام. قريش بالذات هي التي قصدت النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) في منزلة بعد هذا الموقف مباشرة لتستوضح منه ماذا يکون بعد هؤلاء الأئمة. فکان الجواب: ثم يکون الهرج. والصحيح: (الفرج)، کما رواه الخزاز.[1] .

وقد رأي النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): أن مجرد التلميح لهذا الأمر، قد دفعهم إلي هذا المستوي من الإسفاف والإسراف في التحدي لإرادة الله سبحانه. ولشخص النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، دون أن يمنعهم من ذلک شرف المکان، ولاخصوصية الزمان، ولا قداسة المتکلم، وشأنه وکرامته.

فکيف لو أنه (صلي الله عليه وآله وسلم) صرح بذلک وجهر باسمه عليه الصلاة والسلام، فقد يصدر منهم ما هو أمر وأدهين وأقبح واشد خطراً علي الإسلام وعلي مستقبله بصورة عامة.

التدخل الإلهي ثم جاء التهديد الإلهي لهم، فحسم الموقف، وأبرم الأمر، وظهر لهم أنهم عاجزون عن الوقوف في وجه إرادة الله، القاضية بلزوم إقامة الحجة علي الناس کافة، بالأسلوب الذي يريده الله ويرتضيه، وأدرکوا: أن استمرارهم في المواجهة السافرة قد يؤدي بهم إلي حرب حقيقة، فيما بينهم وبين الله ورسوله، وبصورة علنية ومکشوفة.

فلم يکن لهم بد من الرضوخ، والانصياع، لا سيما بعد أن افهمهم الله سبحانه:أنه يعتبر عدم إبلاغ هذا الأمر بمثابة عدم إبلاغ أصل الدين، وأساس الرسالة، (وان لم تفعل فما بلغت رسالته) الأمر الذي يعني: العودة إلي نقطة الصفر، والشروع منها، وحتي لو انتهي ذلک إلي خوض حروب في مستوي بدر، وأحد والخندق، وسواها من الحروب التي خاضها المسلمون ضد المشرکين من أجل تثبيت أساس الدين وإبلاغه.

ومن الواضح لهم: أن ذلک سوف ينتهي بهزيمتهم وفضيحتهم، وضياع کل الفرص، وتلاشي جميع الآمال في حصولهم علي امتياز يذکر، أو بدونه، حيث تکون الکارثة بانتظارهم، حيث البلاء المبرم، والهلاک والفناء المحتّم.

فآثروا الرضوخ إلي الأمر الواقع، والإنحناء أمام العاصفة، في سياسة غادرة وماکرة. ولزمتهم الحجة، بالبيعة التي أخذت منهم له (عليه السلام) في يوم الغدير.

وقامت الحجة بذلک علي الأمة بأسرها أيضاً.

ولم يکن المطلوب أکثر من ذلک. ثم کان النکث منهم لهذه البيعة، وذلک بعد وفاة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، وإحساسهم بالأمن، وبالقوة. (فمن نکث فإنما ينکث علي نفسه).[2] .

(وليحملن أثقالهم، واثقالاَ مع أثقالهم وليسألنّ يوم القيامة عما کانوا يفعلون).[3] .

تذکير ضروري: الورع والتقوي قد يدور بخلد بعض الناس السؤال التالي: إنه کيف يمکن أن نصدق أن يقدم عشرات الألوف من الصحابة علي مخالفة ما رسمه النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) لهم في أمر الخلافة والإمامة. وهم أصحابه الذين رباهم علي الورع والتقوي، وقد مدحهم الله عز وجل في کتابه العزيز، وذکر فضلهم، وهم الذين ضحوا في سبيل الله هذا الدين، وجاهدوا فيه بأمواله وأنفسهم!!

ونقول في الجواب

إن ما يذکرونه حول الصحابة أمر مبالغ فيه. وذلک لأن الصحابة الذين حجوا مع النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قبيل وفاته، وإن کانوا يعدون بعشرات الألوف.

ولکن لم يکن هؤلاء جميعاً من سکان المدينة، ولا عاشوا مع النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فترات طويلة، تسمح له بتربيتهم وتزکيتهم وتعليمهم وتعريفهم علي أحکام الإسلام، ومفاهيمه.

بل کان أکثرهم من بلاد أخري بعيدة عن المدينة أو قريبة منها وقد فازوا برؤية النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) هذه المرة، وقد يکون بعضهم قد رآه قبلها أو بعدها بصورة عابرة أيضاً وقد لا يکون رآه.

وقد تفرق هؤلاء بعد واقعة الغدير مباشرة، وذهب کل منهم إلي أهله وبلاده. ولعل معظمهم- بل ذلک هو المؤکد- قد أسلم بعد فتح مکة، وفي عام الوفود- سنة تسع من الهجرة: فلم يعرف من الإسلام إلا إسمه، ومن الدين إلا رسمه مما هو في حدود بعض الطقوس الظاهرية والقليلة. ولم يبق مع رسول الله بعد حادثة الغدير، إلا أقل القليل من الناس ممن کان يسکن المدينة، وقد يکونون ألفين أو أکثر، وربما دون ذلک أيضاً.

وقد کان فيهم العدد من الخدم والعبيد، والأتباع، بالإضافة إلي المنافقين والذين مردوا علي النفاق ممن أخبر الله عن وجودهم، وأنهم کانوا من أهل المدينة، ومن البلاد المجاورة لها.

ولم يکن رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يعلمهم بصورة تفصيلية، وکان الله سبحانه هو الذي يعلمهم.

هذا إلي جانب فئات من الناس، من أهل المدينة نفسها، کانوا لا يملکون درجة کافية من الوعي للدين، وأحکامه ومفاهيمه، وسياساته، بل کانوا مشغولين بأنفسهم وملذاتهم وتجاراتهم، فإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها وترکوا النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) قائماً.

وقد تعرض کثير من الناس منهم لتهديدات النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) بحرف بيوتهم، لأنهم کانوا يقاطعون صلاة الجماعة التي کان يقيمها رسول الله (صلي الله عليه وأله وسلم) بالذات، کما أنه قد کان ثمة جماعة أتخذت لنفسها مسجداً تجتمع فيه، وترکت الحضور في جماعة المسلمين، وهو ما عرف بمسجد الضرار، وقد هدمه (صلي الله عليه وآله وسلم)، کما هو معروف.

وتکون النتيجة هي أنه لا يبقي في ساحة الصراع والعمل السياسي إلا أهل الطموحات، وأصحاب النفوذ من قريش، صاحبة الطول والحول في المنطقة العربية بأسرها. بالإضافة إلي افراد معدودين من غير قريش أيضاً.

فکان هؤلاء هم الذين يدبرون الأمور ويوجهونها بالإتحاد الذي يصب في مصلحتهم، ويؤکد هيمنتهم، ويحرکون الجماهير باساليب متنوعة، أتقنوا الاستفادة منها بما لديهم من خبرات سياسية طويلة. فکانوا يستفيدون من نقاط الضعف الکثيرة التي کانت لدي السذج والبسطاء، أو لدي غيرهم مما لم يستحکم الإيمان في قلوبهم بعد، ممن کانت تسيرهم الروح القبلية، وتهيمن علي عقلياتهم وروحياتهم المفاهيم والرواسب الجاهلية.

کما أن اولئک الذين وترهم الإسلام- أو قضي علي الإمتيازات التي لا يستحقونها، وقد استأثروا بها لأنفسهم ظلم وعلوا- کانوا يسارعون إلي الإستجابة إلي أي عمل يتوافق مع احقادهم، وينسجم مع مشاعرهم وأحاسيسهم الثائرة ضد کل ما هو حق وخير، ودين وإسلام. وهذا هو ما عبر عنه رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) حينما ذکر: أن تأخيره إبلاغ أمر الإمامة بسبب أنه کان يخشي قومه، لأنهم قريبوا عهد بجاهلية، بغيضة ومقيتة، لا يزال کثيرون منهم يعيشون بعض مفاهيمها، وتهيمن عليهم بعض اعرافها.

وهکذا يتضح: أن الأخبار الواعين من الصحابة، مهما کثر عددهم فإن الآخرين هم الذين کانو يقودون التيار، بما يتهأ لهم من عوامل وظروف فکان أن تمکنوا- في المدينة التي لم يکن فيها سوي بضعة الوف من الناس، قد عرفنا بعض حالاتهم- من صرف الأمر- أمر الخلافة بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)- عن أصحابه الشرعيين، إلي غيرهم حسبما هو مذکور ومسطور في کتب الحديث والتاريخ..

خلاصة وبيان وبعد ما تقدم، فإنه يصبح واضحاً أن الرسول الأکرم (صلي الله عليه وآله وسلم) کان يواجه عاصفة من التحدي، والإصرار علي إفشال الخطط الإلهية، بأي ثمن کان، وبأي وسيلة کانت!

وأن التدخل الإلهي والتهديد القرآني هو للعناصر التي اثارت تلک العاصفة، وإفهامهم: أن إصرارهم علي التحدي، يوازي في خطورته وفي زيف نتائجه، وقوفهم في وجه الدعوة الإلهية من الأساس- نعم إن هذا التدخل- هو الذي حسم الموقف، ولجم التيار، لا سيما بعد أن صرح القرآن بکفي من يتصدي، ويتحدي، وتعهد بالحماية والعصمة له (صلي الله عليه وآله وسلم)، فقال: (وإن لم بفعل فما بلغت رسالته والله يعصمک من الناس إنّ الله لا يهدي القوم الکافرين).[4] .

وإذا کان الله سبحانه هو الذي سيتصدي لکل معاند وجاحد، فمن الواضح:

أنه ليس بمقدور أحد أن يقف في وجه الإرادة الإلهية، فما عليهم إلا أن يبلغ أن ينسجموا من ساحة التحدي، من أجل أن يقيم الله حجته، ويبلغ الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) دينه ورسالته.

وليبوؤاهم بإثم المکر والبغي، وليحملوا وزر النکث والخيانة... والله لا يهدي کيد الخائنين.







  1. راجع کفاية الأثر: ص 52، ويقارن ذلک مع ما في إحقاق الحق (الملحقات) وغيبة النعماني وغيرهما..

    فإنهم صرحوا بان قريشاً هي التي أتته.

  2. سورة الفتح الآية 10.
  3. سورة العنکبوت الآية 13.
  4. سورة المائدة الآية 67.